عقوبات دبلوماسية متبادلة- تصعيد التوتر بين واشنطن وموسكو في حقبة ترمب؟
المؤلف: طلال صالح بنان08.14.2025

في ذروة التنافس المحتدم خلال حقبة الحرب الباردة، تبنت القوى العظمى آلية العقوبات الدبلوماسية كأداة بارزة في إدارة الصراعات، وتجسدت هذه الآلية في صور متعددة، بدءًا من طرد الدبلوماسيين، مرورًا بسحب السفراء، ووصولًا إلى تقليص أعداد البعثات الدبلوماسية، مع فرض قيود مشددة على أنشطتهم وتحركاتهم في الدولة المُضيفة، مع الحرص على الحفاظ على خيط رفيع من العلاقات الدبلوماسية لتجنب التصعيد إلى قطع العلاقات الدبلوماسية الذي يُعتبر إجراءً "عدائيًا". وكقاعدة عامة، تلجأ الدول إلى مبدأ المعاملة بالمثل ردًا على أي عقوبات دبلوماسية تُفرض عليها من قِبل أي طرف دولي، وفي حالات نادرة، تختار الدول اتباع نهج أكثر حذرًا وتسعى لاحتواء الخلاف عبر تجنب الرد بالمثل، وتخضع هذه القرارات لتقديرات دقيقة من جانب المسؤولين عن صياغة السياسة الخارجية في الدولة المعنية.
في تطور مفاجئ، أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، يوم الخميس الماضي، على طرد خمسة وثلاثين دبلوماسيًا روسيًا، ومنحتهم مهلة لا تتجاوز 72 ساعة لمغادرة البلاد، كما أغلقت مقرين تابعين للبعثة الدبلوماسية الروسية في ولايتي ميرلاند وواشنطن، بالإضافة إلى ذلك، فرضت عقوبات صارمة على أفراد وكيانات ومؤسسات رسمية روسية، فضلًا عن شركات خاصة، بتهمة التورط في عمليات قرصنة إلكترونية استهدفت نظام الانتخابات الإلكتروني، بهدف تزوير إرادة الشعب الأمريكي في اختيار الرئيس القادم للولايات المتحدة، وذلك لصالح أحد المرشحين في تلك الانتخابات.
استندت إدارة الرئيس باراك أوباما في اتخاذ هذا الإجراء غير المسبوق، منذ نهاية الحرب الباردة، إلى تقارير استخباراتية وتحقيقات معمقة أجرتها سبع عشرة مؤسسة أمنية رسمية، خلصت إلى أن موسكو تعمدت القيام بتلك القرصنة الإلكترونية بهدف التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو ما يمثل خرقًا أمنيًا جسيمًا لا يمكن التغاضي عنه، وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجهت لهذا الإجراء الدبلوماسي من قِبل أطراف متعددة، بدءًا من موسكو ووصولًا إلى داخل واشنطن، وتحديدًا من فريق الرئيس المنتخب دونالد ترمب، إلا أنه يبدو أن هناك شبه إجماع داخل مؤسسات الحكم والأوساط السياسية في واشنطن على تأييد قرار إدارة أوباما، بل إن بعض الشخصيات البارزة في الحزب الجمهوري، مثل السيناتور جون مكين، المرشح الجمهوري للرئاسة في مواجهة الرئيس أوباما في انتخابات عام 2008، انتقدت إدارة أوباما لعدم فرضها عقوبات اقتصادية موجعة على موسكو ردًا على هذا الاعتداء على النظام الديمقراطي في أمريكا والتأثير على الخيارات الحرة للناخب الأمريكي.
لكن المفاجأة الصادمة لم تكن في رد فعل إدارة أوباما واتخاذها موقفًا دبلوماسيًا حازمًا تجاه موسكو، بل جاءت المفاجأة من الجانب الروسي، حيث فاجأ الرئيس بوتين الجميع، بعد مرور أربع وعشرين ساعة على القرار الأمريكي، باختياره، في سابقة غير متوقعة، عدم الرد على الإجراء الأمريكي، معللًا ذلك بانتظار تنصيب الرئيس الجديد في العشرين من يناير الحالي، وبهذا القرار، خالف بوتين توصية وزارة الخارجية الروسية التي كانت قد أعدت بالفعل قائمة بأسماء خمسة وثلاثين دبلوماسيًا أمريكيًا تمهيدًا لطردهم.
على الرغم من أنه لا يمكن تبرئة الرئيس أوباما وإدارته من وجود دوافع حزبية وسياسية داخلية وراء هذا القرار، إلا أن استقلالية المؤسسات الأمنية في جهازي المباحث والاستخبارات الفيدرالية تجعل من الصعب على الرئيس أوباما تجاهل المعلومات التي ترد منها، على عكس ما فعله الرئيس بوتين بتجاهله أجهزة مماثلة في حكومته، وهذا بحد ذاته يشكل اختلافًا جوهريًا في طبيعة وقيم مؤسسات النظامين في موسكو وواشنطن، على الرغم من تصنيفهما كنظامين ديمقراطيين، مع وجود فروق جوهرية بينهما.
المفاجأة الأخرى تمثلت في قيام الرئيس الأمريكي المنتخب ترمب بتقديم الشكر للرئيس بوتين على قراره بعدم طرد الدبلوماسيين الأمريكيين في موسكو، كما أشاد بما وصفه بذكاء الرئيس الروسي، في إشارة مبطنة إلى انتقاد سلفه واتهامه بافتعال الأزمة، ربما يكون عدم الخبرة السياسية هو الدافع وراء تدخل ترمب في أزمة بلاده، حيث كان الأجدر به عدم إبداء رأي فيها في الوقت الذي يمكنه فيه اتخاذ إجراء بشأنها بعد توليه منصبه رسميًا بعد ثلاثة أسابيع، وبالنظر إلى أن التدخل الإلكتروني في الانتخابات الأخيرة كان لصالح ترمب، كان عليه أن يبتعد عن أي شبهة بعمل لم يفعله، وإن لم يثبت بعد أنه كان على علم به، بدلًا من الإشادة بسلوك رئيس دولة ما زالت في حالة صراع مع بلاده، بعد أن أثبتت أجهزة أمن واستخبارات واشنطن تورطها في شأن داخلي يعتبر سياسيًا وأخلاقيًا ودستوريًا خطًا أحمر لا يسمح لأي طرف دولي بتجاوزه، حتى لو كان حليفًا للولايات المتحدة.
هذا ما دفع إدارة أوباما للتأكيد على صواب قرارها والقول بأن الكرملين لم يتخذ إجراءات انتقامية كما كان متوقعًا وفقًا لمبدأ المعاملة بالمثل، لأن الكرملين نفسه متورط في الأزمة ويخشى من الدخول في تصعيد قد لا يتحمل تبعاته.
يبدو أن هذه الأزمة لن تتوقف عند الحد الذي يريده الرئيس بوتين، وقد تستمر تداعياتها حتى بعد تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترمب في العشرين من يناير الحالي، بغض النظر عن محاولات تطبيع العلاقات من الجانبين لتجاوز هذه الأزمة، والأهم في تداعيات الأزمة داخليًا في الولايات المتحدة هو ما إذا كانت التحقيقات ستستمر وتشير من قريب أو بعيد إلى علم الفريق الذي قاد حملة الرئيس ترمب بمحاولات موسكو للتأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أو علمه هو شخصيًا، بغض النظر عن مدى هامشية هذا التأثير وعدم وصوله إلى التأثير الفعلي على نتيجة تلك الانتخابات، فالمسألة من الناحية السياسية والوطنية والأمنية حساسة جدًا وخطيرة بالنسبة للأمريكيين.
إلى حد ما، تمثل أزمة طرد الدبلوماسيين الروس في واشنطن استعادة لأحداث فضيحة ووترغيت التي أطاحت بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في 9 أغسطس 1974، حيث وقعت أحداثها في حملة إعادة انتخاب الرئيس نيكسون الثانية، ولم يكن الكثيرون يتوقعون أنها ستتفاعل وتقود إلى استقالة الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية قبل نهاية فترته الثانية بسنتين، وهو أمر نادر الحدوث.
في تطور مفاجئ، أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، يوم الخميس الماضي، على طرد خمسة وثلاثين دبلوماسيًا روسيًا، ومنحتهم مهلة لا تتجاوز 72 ساعة لمغادرة البلاد، كما أغلقت مقرين تابعين للبعثة الدبلوماسية الروسية في ولايتي ميرلاند وواشنطن، بالإضافة إلى ذلك، فرضت عقوبات صارمة على أفراد وكيانات ومؤسسات رسمية روسية، فضلًا عن شركات خاصة، بتهمة التورط في عمليات قرصنة إلكترونية استهدفت نظام الانتخابات الإلكتروني، بهدف تزوير إرادة الشعب الأمريكي في اختيار الرئيس القادم للولايات المتحدة، وذلك لصالح أحد المرشحين في تلك الانتخابات.
استندت إدارة الرئيس باراك أوباما في اتخاذ هذا الإجراء غير المسبوق، منذ نهاية الحرب الباردة، إلى تقارير استخباراتية وتحقيقات معمقة أجرتها سبع عشرة مؤسسة أمنية رسمية، خلصت إلى أن موسكو تعمدت القيام بتلك القرصنة الإلكترونية بهدف التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو ما يمثل خرقًا أمنيًا جسيمًا لا يمكن التغاضي عنه، وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجهت لهذا الإجراء الدبلوماسي من قِبل أطراف متعددة، بدءًا من موسكو ووصولًا إلى داخل واشنطن، وتحديدًا من فريق الرئيس المنتخب دونالد ترمب، إلا أنه يبدو أن هناك شبه إجماع داخل مؤسسات الحكم والأوساط السياسية في واشنطن على تأييد قرار إدارة أوباما، بل إن بعض الشخصيات البارزة في الحزب الجمهوري، مثل السيناتور جون مكين، المرشح الجمهوري للرئاسة في مواجهة الرئيس أوباما في انتخابات عام 2008، انتقدت إدارة أوباما لعدم فرضها عقوبات اقتصادية موجعة على موسكو ردًا على هذا الاعتداء على النظام الديمقراطي في أمريكا والتأثير على الخيارات الحرة للناخب الأمريكي.
لكن المفاجأة الصادمة لم تكن في رد فعل إدارة أوباما واتخاذها موقفًا دبلوماسيًا حازمًا تجاه موسكو، بل جاءت المفاجأة من الجانب الروسي، حيث فاجأ الرئيس بوتين الجميع، بعد مرور أربع وعشرين ساعة على القرار الأمريكي، باختياره، في سابقة غير متوقعة، عدم الرد على الإجراء الأمريكي، معللًا ذلك بانتظار تنصيب الرئيس الجديد في العشرين من يناير الحالي، وبهذا القرار، خالف بوتين توصية وزارة الخارجية الروسية التي كانت قد أعدت بالفعل قائمة بأسماء خمسة وثلاثين دبلوماسيًا أمريكيًا تمهيدًا لطردهم.
على الرغم من أنه لا يمكن تبرئة الرئيس أوباما وإدارته من وجود دوافع حزبية وسياسية داخلية وراء هذا القرار، إلا أن استقلالية المؤسسات الأمنية في جهازي المباحث والاستخبارات الفيدرالية تجعل من الصعب على الرئيس أوباما تجاهل المعلومات التي ترد منها، على عكس ما فعله الرئيس بوتين بتجاهله أجهزة مماثلة في حكومته، وهذا بحد ذاته يشكل اختلافًا جوهريًا في طبيعة وقيم مؤسسات النظامين في موسكو وواشنطن، على الرغم من تصنيفهما كنظامين ديمقراطيين، مع وجود فروق جوهرية بينهما.
المفاجأة الأخرى تمثلت في قيام الرئيس الأمريكي المنتخب ترمب بتقديم الشكر للرئيس بوتين على قراره بعدم طرد الدبلوماسيين الأمريكيين في موسكو، كما أشاد بما وصفه بذكاء الرئيس الروسي، في إشارة مبطنة إلى انتقاد سلفه واتهامه بافتعال الأزمة، ربما يكون عدم الخبرة السياسية هو الدافع وراء تدخل ترمب في أزمة بلاده، حيث كان الأجدر به عدم إبداء رأي فيها في الوقت الذي يمكنه فيه اتخاذ إجراء بشأنها بعد توليه منصبه رسميًا بعد ثلاثة أسابيع، وبالنظر إلى أن التدخل الإلكتروني في الانتخابات الأخيرة كان لصالح ترمب، كان عليه أن يبتعد عن أي شبهة بعمل لم يفعله، وإن لم يثبت بعد أنه كان على علم به، بدلًا من الإشادة بسلوك رئيس دولة ما زالت في حالة صراع مع بلاده، بعد أن أثبتت أجهزة أمن واستخبارات واشنطن تورطها في شأن داخلي يعتبر سياسيًا وأخلاقيًا ودستوريًا خطًا أحمر لا يسمح لأي طرف دولي بتجاوزه، حتى لو كان حليفًا للولايات المتحدة.
هذا ما دفع إدارة أوباما للتأكيد على صواب قرارها والقول بأن الكرملين لم يتخذ إجراءات انتقامية كما كان متوقعًا وفقًا لمبدأ المعاملة بالمثل، لأن الكرملين نفسه متورط في الأزمة ويخشى من الدخول في تصعيد قد لا يتحمل تبعاته.
يبدو أن هذه الأزمة لن تتوقف عند الحد الذي يريده الرئيس بوتين، وقد تستمر تداعياتها حتى بعد تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترمب في العشرين من يناير الحالي، بغض النظر عن محاولات تطبيع العلاقات من الجانبين لتجاوز هذه الأزمة، والأهم في تداعيات الأزمة داخليًا في الولايات المتحدة هو ما إذا كانت التحقيقات ستستمر وتشير من قريب أو بعيد إلى علم الفريق الذي قاد حملة الرئيس ترمب بمحاولات موسكو للتأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، أو علمه هو شخصيًا، بغض النظر عن مدى هامشية هذا التأثير وعدم وصوله إلى التأثير الفعلي على نتيجة تلك الانتخابات، فالمسألة من الناحية السياسية والوطنية والأمنية حساسة جدًا وخطيرة بالنسبة للأمريكيين.
إلى حد ما، تمثل أزمة طرد الدبلوماسيين الروس في واشنطن استعادة لأحداث فضيحة ووترغيت التي أطاحت بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في 9 أغسطس 1974، حيث وقعت أحداثها في حملة إعادة انتخاب الرئيس نيكسون الثانية، ولم يكن الكثيرون يتوقعون أنها ستتفاعل وتقود إلى استقالة الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية قبل نهاية فترته الثانية بسنتين، وهو أمر نادر الحدوث.